المراجع

“المدرسة البحرية في لبنان”. مقتطفات من “على ضفاف البدايات” (ص.15 إلى 20) من مقدمة كتاب الدكتورة مهى عزيزه سلطان : “رواد من نهضة الفن التشكيلي في لبنان – القرم و سرور و الصليبي – 1870-1938” الكسليك – لبنان – 2006. 

شهد لبنان منذ النصف الثاني من القرن التاسع عشر ظهور فنانين عصاميين رسموا المناظر البحرية على طريقة الرسامين الاتراك. و قد درج النقاد المعاصرون في القرن العشرين على إعطاء هذا الاتجاه الفني من ألتصوير، تسمية ” المدرسة البحرية”. إذاً هي مصطلح تقني يعبر عن وضع فني، و غير مرتبط بوجود مؤسسة عسكرية على غرار المدارس الحربية في داخل اسطمبول، أو في خارجها من البلدان التابعة للإمبراطورية العثمانية.

فالمدرسة البحرية عندنا، كما يقول الناقد نزيه خاطر، ليس لها مفهوم و غير معروفة الركائز. إذ كان الضباط الأتراك في مرحلة ممتدة من العام ١٨٨٤ إلى العام ١٩١٤ يأتون إلى بيروت، و يقومون بمهام عسكرية تتعلق بالشؤون البحرية، و كان الرسم و ألتصوير جزءًا من هذا المهام. “و قد جاء أيضاً مع هؤلاء مهندسون و رسامو خرائط مساحية، سجلوا الأحداث التي شهدها مرفأ بيروت مثل ضرب البارجات الايطالية لبيروت. تم ذلك في ظل صراع شرقي (تركي)-غربي(أوروبي). فكان الفنانون الأتراك يأخذون معهم أعمالهم و يرحلون بلا أثر. من جهة أخرى نجد إن الفنانين الأتراك كانوا على علاقة وطيدة بالمسلمين من أهالي بيروت. و هذه العلاقة مصدرها التزاوج و صلات القربى، لذلك تركوا أثراً في نفوس بعض الرسامين الفطريين اللبنانيين الذين قلدوا الفنانين الأتراك في رسم المناظر”.

(مقتطف من حوار خاص أجريته مع الناقد التشكيلي في جريدة النهار نزيه خاطر في خريف عام ٢٠٠٢).

أما الانعكاس المحلي للمدرسة البحرية، فقد ظهر على مستوى الفنانين الذين صوروا غرق السفن و الأحداث و المناسبات التي شاهدوا عليها بريشتهم و عواطفهم ” مع هولاء بدأت تبرز الشخصية اللبنانية التي تمد يدها إلى النجوم في غياب السلم المفضي إلى القبة البعيدة. غير إن المدرسة امتازت بالدقة و قوة الملاحظة للالوان و الأنوار. مدرسة استمهلت طبيعة الساحل اللبناني، فكانت اثارها هي مرحلة تنبه ضائع. و القليل القليل الذي لا يزال موجوداً يدل على إن هذا الفن و إن انطوت لوحات منه على أكثر مقومات الفن، إلا إنه فن أولي علم أصحابه ألتصوير، فمارسوه من غير علم بأصوله و جماليته”.

(رياض فاخوري، “حديقة ضيوف الفن الإنطباعي اللبناني”، منشورات غاليري بخعازي، بيروت، ١٩٩٣،ص ٣٣).

لعل أهمية المدرسة البحرية انها ارتبطت بموقع بيروت و مرفأها و دورها الاستراتيجي على الحوض الشرقي للمتوسط، لا سيما عقب المشاريع المتتالية التي قامت بها السلطنة العثمانية ما بين ١٨٨٧ و ١٨٩٤ لتطوير المرفأ و تحسينه، مما أثر تأثيراً مباشراً على الحياة الاقتصادية البيروتية و اللبنانية و الشامية.

(حسن حلاق، “بيروت في المرحلة العثمانية”، منشورات مجلة تاريخ العرب و العالم، ط ١، بيروت، ١٩٩٤، ص ٩٣).

و مثلما وقف الرسامون  الأتراك أمام البوسفور، كذلك وقف الرسامون اللبنانيون أمام مرفأ بيروت،  أحداثاً و ذكريات ما لبثت أن دخلت في سجل المدينة و تاريخها الحافل. يأتي في طليعتهم  ابراهيم سربيه (حوالي ١٨٥٠-…) الفنان الذي شغفه بحر بيروت فكان حديث أهلها و زينة بيوتها. تحدث عنه مصطفى فروخ (١٩٠١-١٩٥٧) فقال : ” كان فنه دقيقاً و أنيقاً كل الأناقة، كثير الملاحظة و الاحساس في إبراز الألوان و الأضواء الشفافة مع غياب اللون القاتم. إمتاز أيضاً بالتقاطه اهتزازات المياه و إنعكاس صور الأشياء على صفحتها، مما يذكرنا بلوحات فنان البندقية الأشهر كاناليتو الذي تحتل لوحاته اليوم أعظم متاحف العالم. أما لوحات فناننا سربيه  البيروتي فهي تستقر في أعماق المجهول و تحتل زوايا الظلام”.

(مصطفى فروخ، “الفن و الحياة”، دار العلم للملايين، بيروت، ١٩٦٧، ص ١٣٩.)

من أشهر أعمال سربيه التي خلدته هي اللوحة التي رسمها لمناسبة زيارة الامبراطور غليوم الثاني إلى بيروت، يوم السبت الموافق فيه ٥ تشرين الثاني ١٨٩٨، قادماً بحراً من يافا، على متن اليخت الإمبراطوري “هترولرن” بحراسة دوارع ألمانية و عثمانية وسط الزينة و لافتات الترحيب و أقواس النصر التي ملأت بيروت، و الأف المستقبلين من سكان بلاد الشام الذين اعلنوا ترحيبهم بالصداقة الألمانية-العثمانية. (عبد الرؤوف سنو، “رحلة إمبراطور ألمانيا غليوم الثاني إلى لبنان”، في كتيب مهرجانات بعلبك الدولية، العدد ١٢ – ١٩٩٨- ص ٨٢-٨٩). هكذا يظهر في اللوحة مرفأ بيروت مزداناً بلاعلام غاصاً بالجماهير، تملأه قطع الاسطول الذي واكب العاهل الألماني و زوجته اوغستا فيكتوريا، كما تبدو الجماهير على الأرصفة، تمر بقربهم العربات  تجرها الخيول و تحمل المتفرجين و هم بزيهم القديم.

هل الواقعية الفطرية التي ميزت إسلوب سربيه هي السبب الكامن في الدقة التفصيلية التي عالج بها اللوحة ؟ أم إن الهاجس الطبوغرافي المتوارث من الفن التركي هو الذي أملى عليه طريقة التعبير عن ذلك الحدث التاريخي بنبضه و حرارته ؟ و هل رسم المشهد في الهواء الطلق كاملاً أم جزئياً مستعيناً على إنجاز التفاصيل بذاكرة الصورة الفوتوغرافية، لاسيما إن هذا الحدث قد واكبته عدسة المصور أدريان بونفيس (١٨٦١-١٩٢٩) .Bonfils A في بيروت ؟ هذه الأسئلة تفرض نفسها على لوحة حملت مواصفات جمالية فريدة وقتئذٍ في الفن اللبناني.

و في المناخ الطبوغرافي عينه رسم سربيه لوحة ثانية عبارة عن منظر شامل لبيروت. يمتاز بنظرة بانورامية جامعة للبحر و البر. فظهرت البيوت متراصة، متوجة بالقرميد الأحمر، يتقدمها حزام من بقعة خضراء ما هو إلا حرج الصنوبر الذي كان ملتقى الناس و موئل أعيادهم و أفراحهم.

من بين الأعمال غير المكتشفة لابراهيم  سربيه، ثمة لوحة لطالما كانت مجهولة هي أيضاً من أجمل  في فن البحار. ارتبطت  وثيقاً بمناسبة رسمية، و هي عملية شراء مدمرتين حربيتين انضمتا إلى الاسطول العثماني في عهد السلطان عبد الحميد الثاني ( ١٨٤٢-١٩١٨). و قد انطلقت هاتان المدمرتان من اسطمبول  و اخذتا تجوبان المدن و الولايات العثمانية، و قد رفعت على سويرهوما الأعلام التركية.فمرتا في طرابلس و بيروت و يافا و سواها من مدن المتوسط الواقعة تحت نفوذ الدولة العثمانية. و كانت كلما  البارجتان إلى مرفأ مدينة من المدن يقام لها إحتفالات شعبية.

صور سربيه عبور هاتين البارجتين في المياه الاقليمية اللبنانية في ميناء بيروت بإحساس لوني مرهف. دأب على مواكبة الحدث، الذي كان مسرحه البحر، معرباً عن المناخات الضبابية التي جعلت الأزرق يميل إلى الرمادي المخضر، ناقلاً ملاحظاته تجاه رقة مياه البحر و رعشات الأمواج التي تتقلب في طياتها.

ما كان بلامكان التعرف إلى إنتاج الفنانين العصاميين من اللوحات البحرية، لولا كتابات الفنان مصطفى فروخ، إبن بيروت الذي راح يفتش عن أعمالهم و يتعقب مساراتهم كي يؤرخ لذاكرة غارقة في مياه الزمن أو شبه مفقودة. فيذكر لنا إلى جانب سربيه  علي الجمال، الذي سافر إلى الأستانة و دخل المدرسة البحرية ليشبع رغبته من حب البحر، فإذا به يتخرج منها ضابطاً بحريا. و قد لون على البوسفور لوحات كثيرة على جانب من القوة و المتانة. فرسم المراكب في مهب العاصفة و نال بجهده و نبوغه في عاصمة العثمانيين شهرة جعلته استاذاً في مدارس عدة هناك و عرف ب “البيروتي”.

و ثمة فنان أخر من ال دمشقيه رسم غرق الدارعة فيكتوريا في مياه  عند زيارة الأسطول الانكليزي هذه البلاد. و من بعده كرت سبحة هؤلاء الفنانين الذين انجبتهم شواطئ بيروت منهن حسن التنير و سليم حداد و محمد سعيد مرعي و نجيب بخعازي . يقول فروخ :”كل هؤلاء اظهروا مواهبهم، و لوحاتهم كانت بلا شك ذات قيمة. أخصهم بالذكر سليم شبلي الحداد (من عبي) الذي سكن في مصر، أما محمد سعيد مرعي (من البسطة) فشاهدت  له صورة لاحد ال الجارودي و هي على كثير من المزايا و المقدرة، و قد ترك البلاد إلى أمريكا كما تركها البخعازي إلى روسيا و الحداد إلى مصر و الجمال إلى الأستانة و سربيه إلى القبر”.

(مصطفى فروخ، المرجع السابق، ص ١٤٢).

لم يقتصر إنتاج هؤلاء الفنانين الذين ذكرهم لنا فروخ على المناظر البحرية، بل خاضوا في تصوير الوجوه المدنية من طبقات إجتماعية متنوعة. فلمع من بينهم سليم حداد، و كان رائداً من رواد المدرسة البحرية و رساماً بارعاً في فن البورتريه. من روائعه الصورة الكاملة التي رسمها لوجه سليم بك تابت في العام ١٨٨٨ و الصورة النصفية التي رسمها لميخائيل شحاده الذي شغل منصب الترجمان في القنصلية الروسية و سواها من الصور لابرز وجوه عصره، أما موهبة نجيب بخعازي فهي أقل شأناً من موهبة سليم حداد، و من اثاره الباقية بعض لوحات الوجوه و النماذج التي تعبر عن الحياة الشعبية الفلكلورية اللبنانية.

و يتسأل نزيه خاطر عن رعيل هؤلاء الفنانين اللبنانيين الذين بدأوا بخجل يرسمون في الهواء الطلق، إلى أن تكرس المنظر المنجز في  مع خليل الصليبي (١٨٧٠-١٩٢٨)، معتبراً هذه الظاهرة في ألتصوير سابقة للمنظر اللبناني في الهواء الطلق، و يرجح بانها تقليد لما كان يجول دولياً من مدارس التي أدت إلى إنطلاق تيار الانطباعية في الغرب منذ العام ١٨٧٠.

يبدو إن ترجيح إطلاع فناني “المدرسة البحرية” من اللبنانيين أو الأتراك على تيار الانطباعية في الغرب هو خيار بعيد الاحتمال، و الأقرب هو تأثيرات موضوعات غرق السفن في عرض البحار، في  فناني الرومنطيقية في الغرب، ابرزهم المصور الانكليزي وليم  ترنر .Turner W  (١٧٧٥-١٨٦١)  و الفرنسي تيودور جريكولت  .Géricault T (١٧٩١-١٨٢٤) و تلميذه اوجين دولاكروا  .Delacroix E  (١٧٩٨-١٨٦٣)  والرسام الروسي إيفان ايفازوفسك .Ivasovsky I  (١٨١٧-١٩٠٠) و سواهم.

يهمنا في هذا المجال أن نتعرف إلى الفنان الروسي إيفازوفسكي الذي تمتع فنه بشعبية كبيرة، فتجاوزت شهرته حدود روسيا. توقف عنده فروخ بالقول : “قضى هذا الفنان عمره متنقلاً يرسم على شواطئ البحر الأسود. و له منها صورة جبارة تمثل عاصفة من الأمواج الغاضبة تنقض على فلك صغير، قدمها للسلطان عبد الحميد الثاني الذي منحه عليها وساماً عثمانياً برتبة جنرال بحري  و جائزة مالية كبيرة”

(المرجع نفسه، ص ٣٨).

و مما يشير إلى الأهمية القصوى التي تمتع بها الفن البحري في قصور الأستانة، إن الفنان التركي حسين زكي باشا (١٨٦٠-١٩١٩) تلميذ المدرسة البحرية، قد قدم للسلطان عبد الحميد الثاني لوحة مستوحات من حفل مسائي على البوسفور،  السلطان لقب ملازم أول. و كانت السلطنة تمنح  الألقاب و الأوسمة تقديراً للفنانين الموهوبين لتشجيعهم على مزاولة ألتصوير.

(Gunsel RENDA, Turan EROL, Histoire de la peinture Turque, p. 65).

 مقتطفات من محاضرة مصطفى فرّوخ
في “الندوة اللبنانيّة” «CÉNACLE LIBANAIS»
في 14 أيلول 1947

يمكن القول إن طلائع نهضة لبنان الأدبيّة والفنيّة بدأت في القرن التاسع عشر، يوم تنبّه الفكر فيه فانطلقت تلك النهضة قويّة تزخر بروح التجرّد والإخلاص هدفها الأدب للأدب والفنّ للفنّ شأن كل وثبة صحيحة قائمة على قوى نفسيّة كانت مكبوتة فانبعثت دفاقة كالينبوع صفاء وحياة.

وأرى من المفيد، قبل الحديث عن أفراد هذه العصبة الكريمة، أن أعرّفها وأصف أسلوبها واتّجاهها. يقول شيخ الفنّ الحديث “اوغست رودان” في صفة أهل الفنّ الصحيح في مقدّمة كتابه “L’Art”، إن الفنّ إخلاص وتعلّق بالطبيعة، وانتباه وحكمة، وإرادة وعمل”. هذه هي المزايا الأساسيّة التي يطلبها الفنّ من محترفيه وبهذه الصّفات كان يتحلّى أفراد هذه القافلة.

وإنّنا نبدأ بذكر أحد مؤسّسي النهضة العلاّمة عبدالله زاخر (1748-1684)، فقد كان إلى جانب علمه فنّاناً، خلّف بضع لوحات منها صورته. وقد زرت دير مارحنا للرّهبان الكاثوليك قرب الشوير، واطّلعت على المطبعة التي صنعها بمعاونة الرّهبان والأحرف الخشبيّة والنقوش التي حفرها وطبع بها أول كتاب في لبنان. وكذلك الفنّان كنعان ديب ديب من دلبتا درس على نفسه وأعطى صوراً فيها إحساس وتصوُّف عجيب، والمصوّر نجيب يوسف شكري من دير القمر 1897 ونجيب فياض وابراهيم سربيه من بيروت 1865 ودمشقيه وسعيد مرعي وعلي جمّال. وقد وقف معظم هؤلاء فنّهم على تصوير المراكب والمناظر الطبيعيّة والبحر. فتذكرنا صور سربيه بلوحات فنّان البندقيّة “Canaletto” الذي وقف حياته على تصوير ترعة البندقيّة ومراكبها وأشهر صور سربيه اللّوحة التي تمثّل استقبال الأمبراطور غليوم في مرفأ بيروت المزدحم بالسّفن. وله صور، أمّا دمشقيه فأشهر صوره تلك التي تمثّل الحادثة البحريّة الشهيرة وهي غرق الدّارعة البريطانيّة فكتوريا في مياه طرابلس عند زيارة الأسطول لهذه البلاد. وهناك مرعي الذي قام بمحاولة تصوير بعض الأشخاص ولكنّه اضطّر على أثرها أن يُغادر البلاد إلى أميركا.

وأخيراً الضّابط علي جمّال الذي بلغ من ولعه بتصوير البحر وأمواجه والمراكب أن سافر إلى القسطنطينيّة والتحق بالمدرسة البحريّة حيث تخرّج ضابطاً. هؤلاء حصروا فنّهم في تصوير البحر والمراكب دون غيرها، نتيجة لعقليّة كانت سائدة يومئذٍ. من روّاد النهضة سليم الحدّاد من عيبه مارس فنّه في مصر ونال شهرة وكذلك نجيب بخعازي الذي رحل لروسيا، ولا يُمكن الكلام عن لوحاتهما لأنّ الحظ لم يتِح لنا مشاهدتها.

ونتقدّم الآن إلى الكلام عن الفريق الثاني، وهم الطليعة الذين سافروا إلى أوروبا ودرسوا الفنّ على يد كبار الفنانين. الفنّان رئيف الشدودي اهتمّ بتصوير الأشخاص وله فيها ما هو جدير بالإعجاب منها صورتان للسيّد مسعد وولده وقد توفي في ريعان الشباب همّاً وكمداً ولم يترك سوى عدد من الصور.

داوود القرم (1930-1852)

داوود القرم كان أوّل من شقّ طريق الفنّ الناضج بيننا، وقدّر له أن يُسافر إلى مهد الفنون إيطاليا عام 1865، حيث اطلّع في المتاحف الكثيرة والمعاهد الفنيّة ووقف وقفات طويلة أمام روائع العباقرة هناك أمثال: ميكالانجيلو، رفائيل وفيرونيز. تأثر داوود القرم بروح رفائيل ومدرسته فأعطانا فنّاً حلواً يزخر بالعاطفة والرقّة والإحساس.
ومن معاصريه شكري المصوّر الذي تدلّ لوحاته القليلة الباقية عن تحسّن بالغ لاسيّما في ترجمة الألوان والأجواء اللبنانيّة التي تفيض بالإشعاع والنّسيم والأبعاد.

حبيب سرور (1938-1860)

حبيب سرور درس الفنّ في روما عام 1870 وتمكّن منه وتفوّق على أقرانه هناك لما أظهره من المواهب الفنيّة وذلك بشهادة بعض كبار الفنّانين الغربيّين الذين كانوا رفقاءه في الدّراسة. وله في مدرسة الموارنة في روما صورة للبطريرك يوحنا مارون تعدّ من الروائع الفنيّة في عاصمة الفنون. وجدير بالذّكر أنّني زرته في مرسمه يوماً فوجدته على عهدي به منكبّاً على تصوير غصن صغير يحمل بعض وريقات ذابلة، فدُهشت وقلت: ماذا؟ فالتفت إليّ مبتسماً، وقد اهتزّت نظّارتاه من أعلى أنفه الحاد، وقال: “ليتني يا مصطفى أتمكّن من بلوغ تصوير ما احتواه هذا الغصن اليابس من دقّة وجمال قد حيّرني وأعجزني. كل شيء فانٍ، وقيمة الحياة في مثلها ومعنوياتها تلك الحياة المثلى التي يحياها أهل الفنّ وأمثالهم والألم الذي يدغدغ نفوسهم هما العنصر الأهمّ والأبلغ في حياة أرباب الفكر وفي قيمة إنتاجهم.” ثم عاد إلى لوحته مردّداً: “لا يعرف الله من لا يعرف الألما”. وعاصر سرور نجيب قيقانو الذي لم يعمل كثيراً في حقل الفنّ لإعتلال صحّته.

خليل الصليبي (1928-1870)

كان الصليبي كزملائه في نبوغه وبراعته غير أنّه كان في ألوانه شاعراً مبدعاً، وموسيقيّاً ملحناً كثير الأناقة لما كانت تتّسم به ألوانه من النضارة والإنسجام والتحرّر.  كان ثائراً، صاخباً، في نفسه رغبات، كان ناقماً على مجتمعه، صريحاً في نقده، تلك الصّراحة التي جنت عليه وانتهت بقتله وزوجته الأميركيّة في بيروت صيف 1928.

جبران خليل جبران (1931-1883)
نذكره هنا وإن عُرف بأدبه أكثر من ريشته غير أنّه درس التصوير وهو صبيّ على يد الأستاذ سرور الذي أخبرني ذلك، ثمّ رحل لباريس فأميركا حيث أتمّ دروسه الفنيّة وغيرها. وقد ترك لنا رسوماً رمزيّة رقيقة صوفيّة الرّوح تزخر بروح الشّرق وفلسفته، أضفت على أدبه رونقاً وبهاءً.

مكاروف فاضل (1945-1910)
وما كنت أحبّ أن أختم حديثي بفاجعة الشباب، ولكنّ نفسي أبت عليّ أن أطوي الكلام على ذكر هذا الشباب الذي ما كاد يتفتّح عن آمال طيّبة تطلع في سماء الفنّ اللّبناني حتى اختطفه القضاء من بيننا، وهو المرحوم مكاروف فاضل.

 

مقاطع من “الفن المعاصر في لبنان” بقلم إدوار لحود
(ترجمة ستة مقاطع)

الشاطئ وخاصّة بيروت أصبحت همزة وصل ومفرق طرق دوليّان ومركز ثقافي وسياحي وتجاري. انطلاقاً من هذه القواعد ابتدأ الفن بالإنفتاح على التيارات الخارجيّة. إنّها ولادة المسرح والمطبعة الحديثة والمكتبة العامّة والجريدة والجامعة. تلك فترة الإنفتاح تميّزت بتوافد عدد كبير من الفنانين الغربيين “المستشرقين” إلى شواطئنا وكانوا يتأنون برسم أدنى زاوية. لقد سُحروا بنقاوة الجو، وبالجمال الطبيعي وبالآثارات القديمة والهندسة الشرقيّة والأبنية وأزياء المواطنين. أوّل هؤلاء الرسّامين الأجانب كان الإنكليزي بارلت “Bartlett”، الذي جاء إلى لبنان عام 1834 ونصب مسنده على شاطئ بيروت، وفي الضواحي، ليرسم البحر والمآذن والأبراج والبيوت البيضاء والجميز والصبير والرجال بالزي العربي والنساء وعلى رؤوسها التنتور.

ثمّ لحق به فينيال “Vignal” المخصّص باللّوحات المائيّة (Aquarelles) وترك لنا منظر من كفرشيما ومشهد في مقهى “بلدي” في الضبيه ومنظر عن ميناء الحصن حيث نرى قسم من شاطئ بيروت والجبل.

كانوا هؤلاء الفنانين الأجانب “المستشرقين” قد اعطوا إشارة الإنطلاق لمدرسة الرسم “البحريّة”، التي ولدت في بيروت في أوساط القرن التاسع عشر والتي تخصّصت، قبل كلّ شيء برسم البواخر والبحر. لم يكن التأثير الأوروبي وحده قد فعّل تلك المدرسة، بل أيضاً المدرسة التركيّة، التي كان أسلوبها متقدم في جميع مقاطعات الأمبراطوريّة العثمانيّة ولعبت دوراً محوريّاً في تلك المدرسة في بيروت. ضمن تلك التأثيرات المباشرة، نُشير اهتمام هؤلاء الرسّامين في التثبيت على لوحاتهم للوقائع التاريخيّة، خاصّة المعارك، مع المحاولة لإدخال أكبر عدد من الشخصيّات لإبراز القيمة الحقيقيّة للحدث.

أحد رواد تلك المدرسة “البحريّة”، كان شاباً نحيلاً، كثير الإهتمام بنفسه، يجلس ساعات طويلة للتأمّل دون الشبع من البحر وأمواجه. إنّه ابراهيم سربيه من بيروت، رسّام صور (Portraits) ومناظر، لكنّه أبدع خاصة برسم البحر والسفن. إحدى لوحاته الرئيسيّة تمثّل استقبال الأمبراطور الإلماني غليوم الثاني في مرفأ بيروت. نُلاحظ على اللوحة، المرفأ مزيّن بالرايات، مليء بالبشر مدجج بوحدات اسطول المرافقة. على الأرصفة وبين الجمهور عربات خيل تنقل الفضوليين بالزي المحلي التقليدي. سربيه كان يستعمل الريشة بلياقة ودقة فائقين. كان يتمتّع بحسّ مرهف وحدّة بالملاحظة، مع كفاءة عالية في إبراز الألوان والأضواء وشفافيّة الجو. كان يجيد رسم حركة ولمعان المياه. إنّه يذكّرنا بلوحات الفنان الكبير في البندقيّة كاناليتو “Canaletto”.

في الفترة نفسها، في أحد الأزقّة الضيّقة والمعتمة في بيروت، نشأ شاب آخر اسمه جمّال، كان قد بدء بإظهار ذوقه وموهبته. كان يمضي أكثر أوقاته في التأمّل بالمساحات الشاسعة للبحر الأزرق. عند بلوغه الشباب، قرر الذهاب إلى اسطنبول والإلتحاق بالمدرسة البحريّة حيث تخرّج ضابطاً بحرياً. ثمّ رسم على البوسفور كميّة من اللّوحات المليئة بالعزم. استقر في أسطنبول وعمل كأستاذ رسم في عدّة معاهد حكوميّة. أبدى في أعماله سيطرة تامّة في جميع أنواع الرسومات كالصور (Portraits) والحيوانات والمناظر. إنّه يتميّز يدقّة رسومه وأحكام ألوانه، الثبات في التنفيذ والصفاء في المحيط.
نسمي رائد آخر لذلك التجدّد الفني، شاب من آل دمشقيه راسم لوحة تمثّل المدرّعة فكتوريا “Victoria” وهي تغرق في المياه الطرابلسيّة، خلال مرور الأسطول الإنكليزي في المنطقة. ومن بعده نذكر حسن التنير، سليم حداد من عبيه، محمد سعيد مرعي من البسطة ونجيب بخعازي من الأشرفيّة. مرعي هاجر إلى أميركا، حداد إلى مصر وبخعازي إلى روسيا. برز بينهم سليم حداد الذي تمتّع، في تلك الفترة، بشهرة كبيرة في مصر. بالواقع، فضل تلك المدرسة البحريّة أنها عرفت تقييم البيئة الحميمة والمنيرة للشاطئ اللبناني.


مقاطع من “القصة الصغيرة للرسم في لبنان”
بقلم عبدالله نعمان
(ترجمة خمس مقاطع)

أصبحت بيروت مركزاً ثقافيّاً وسياسيّاً وتجاريّاً مهمّاً. إنّها ولادة المسرح والمطبعة الحديثة والمكتبة العامة والجريدة والجامعة. بدأ عدد كبير من الفنانين الغربيين بالتوافد إلى لبنان وبشغف كبير بدأوا يرسمون بتأني أدنى زاوية. سُحروا بنقاوة الجو والطبيعة الخلابة وبالآثارات القديمة والهندسة الشرقيّة والأبنية والأزياء الوطنيّة. أوّل الوافدين كان الإنكليزي بارلت “Bartlett” عام 1834، الذي نصب مسنده على شواطئ بيروت وضواحيها لرسم البحر والمآذن والأبراج والمنازل البيضاء والجميز والصبير والرجال بالزي العربي والنساء وعلى رؤوسها التنتور.

ثمّ لحق به بيار فينيال “Pierre Vignal” (1924-1855) المخصّص باللّوحات المائيّة (Aquarelles). ترك لنا منظر من كفرشيما ومشهد من مقهى “بلدي” في الضبيه ومنظر من ميناء الحصن حيث نرى قسم من شاطئ بيروت والجبل. ثم أتى دور فرانسوا كاساس (1827-1756)، مرسل من الملك لويس الخامس عشر (1774-1710) بمهمة في الشرق وقد رسم مئات اللوحات.

كان هؤلاء الفنانين نقطة الانطلاق لمدرسة رسم “بحرية”، ولدت في بيروت في منتصف القرن التاسع عشر والتي تخصّصت قبل كلّ شيء في رسم السفن والبحر. لم يكن التأثير الأوروبي وحده قد أثّر على تلك المدرّسة، بل أيضاً المدرسة التركية، التي كان اسلوبها متقدم في جميع مقاطعات الأمبراطوريّة العثمانيّة ولعبت دوراً محوريّاً في تلك المدرسة في بيروت وطرابلس. ضمن تلك التأثيرات المباشرة، نُشير إلى اهتمام هؤلاء الرّسامين بالتثبيت على لوحاتهم للوقائع التاريخيّة وخاصّة المعارك مع المحاولة لإدخال أكبر عدد من الشخصيات لإبراز القيمة الحقيقيّة للحدث.
أحد رواد تلك المدرسة البحرية هو البيروتي إبراهيم سربيه (المولود عام 1865). كان رسّام صور (Portraits) ومناظر وأبدع خاصّة برسم البحر والسفن. احدى لوحاته الرئيسيّة تمثّل استقبال الإمبراطور الألماني غليوم الثاني (1941-1859) في مرفأ بيروت والتي تذكرنا بلوحات الرسّام الإيطالي من البندقية كاناليتو “Canaletto” 1768-1697.

في الفترة ذاتها كان هنالك شاب بيروتي اسمه جمّال، وكان يمضي معظم أوقاته في التأمّل بالمساحات الشاسعة للبحر الأزرق. فقرر الذهاب إلى اسطنبول والالتحاق بالمدرسة الحربية حيث تخرّج ضابطاً بحرياً. ثمّ رسم على البوسفور كميّة من اللوحات المليئة بالعزم. استقر في اسطنبول وعمل كأستاذ رسم في عدّة معاهد حكوميّة.

رائد آخر لذلك التجدّد الفني، شاب من آل دمشقيّة، رسم لوحة تمثّل المدرّعة فيكتوريا وهي تغرق في المياه الطرابلسيّة خلال مرور الأسطول الإنكليزي في المنطقة. ومن بعده أنّهم حسن التنير وسليم حداد ومحمد سعيد مرعي ونجيب بخعازي. مرعي هاجر إلى أمريكا، حداد إلى مصر ووبخعازي إلى روسيا.

Le Grand Méconnu, par Nicole Malhamé Harfouche